الأربعاء، 9 يونيو 2021

في قلب قلب البلاد | ويليام غاس

 

هذه ترجمة ثانية للنص الذي ظهر ضمن مجموعة قصصيّة بنفس الاسم العام 1968. نشرت الترجمةالعربيّة الأولى، التي أنجزها منير صلاحي الأصبحي، في العدد الثالث من مجلة الآداب الأجنبيّة التي كانت تصدر في سوريا (1974- 2005) العام 1975. مع أن هذه المحاولة استفادت من الترجمة الأولى في عدد من المواقع، إلّا أنّها لا تدّعي أنّها نسخة محسّنة- على الرّغم من أن الأصبحي كان يحذف ما لا يستطيع ترجمته من دون تنويه لذلك. لا يحقّ لي أن أسمّي ذلك كسلاً فكريّاً، فالمصطلحات والاسماء المحليّة والإحالات الثقافيّة التي لم يجد المترجم معلومات عنها كنت أستطيع إيجادها بثوانٍ.

 

مكان

وهكذا قطعت البحار وأتيت.

 

إلى بي.

بلدة صغيرة مثبّتة في حقل في إنديانا. كان هناك 1200 شخصاً ممّن استجابوا للمرتين اللتين أقيم بهما تعداد للسكّان. البلدة نظيفة وظليلة بشكل استثنائيّ، ودوماً ما تصدّر أفضل جوانبها على الطريق السريع. حتّى أنّه ثمّة غزال من الخشب أو البلاستيك في أحد البساتين. يمكنك الوصول إلينا بعبور جدول. تخضر البساتين في الربيع وتغنّي نباتات الفورسيتيا، وحتّى السّكك التي تسيّج البلدة تدندن قضبانها المستقيمة البرّاقة عندما يأتي قطار، والقطار نفسه يمتلك صوتاً صدّاحاً مرحّباً.

وفي نهاية الشوارع الخلفيّة، يتفتّت الإسفلت ليصبح حصىً. هناك منزل عائلة ويستبروك، التي يحيط بها نبات الغرنوق، ومنازل عائلتي هورسفول، وموت. يتهشّم الرصيف. يتصاعد غبار الحصى كالأنفاس خلف العربات. وأنا انتهيت من الحب وتقاعدت.

 

طقس

في الغرب الأوسط، حول البحيرات السفليّة، السماء في الشتاء كثيفة وقريبة، وعندما ترتفع السماء وتسمح للقلب بالشروق، سيكون يوماً نادراً، يوماً للتذكّر. أعدّ الأيّام وأنا أكتب هذه الصفحة، مرّ يوماً منذ أن رأيت الشمس.

 

منزلي

ثمّة صف من أشجار القيقب المقطوعة خلف منزلي، والتي قطعت لإفساح المجال لأسلاك كهربائيّة. بقيت الجذوع العالية التي يبلغ طولها 10 أقدام، والتي أتسلّقها كصبيّ لأشاهد البلاد وهي تبحر بعيداً عنّي. إنّها حقول عاديّة، أكثر وعورةً ممّا ينبغي، بما أنّها توحل في الربيع. التربة السطحيّة رقيقة، لكنّها صخريّة إلى حدّ مقبول. تزرع الذرة سنة، وفول الصويا سنة أخرى. وفي الغسق، تظلّل الزرازير الشجرة الوحيدة- الأرزيّة- التي تنتصب في الوسط. وعندما تتحرّك السماء، تتحرّك الحقول تحتها. أجلس في مقعدي وأشعر أنّني ضيّعت عمري. يبدو الأمر وكأنّني كنت أعيش وأنا أفعل ما حلمت بفعله دوماً، بيني وبين نفسي على الأقل، وعندها أعتقد أنّني أعرف لماذا أتيت هنا: لأرى، وهكذا أواجه أموراً جديدة- يا إلهي كم هو سهل- مثل النسيم. صحيح أنّه ثمّة لحظات- لحظات غبيّة، كنشوة تسلّق جذع شجرة- حيث أكون شبه مغيّباً ومتبعثراً، أحب أن أفكّر مثل بذرة، لأنّني الآن في وضع الأحمق الذي عثر على بقايا حبّ أريد أن أضيّعه: ما فائدته الآن؟ هل هو مثل الحلوى التي لم توزّع في الهالوين؟

 

شخص

ثمّة أراضٍ فارغة على جانبي منزل بيلي هولسكلو. مع تحسّن الطقس، تمتلئ الأراضي بنباتات الخطمى. ومن الربيع حتّى الخريف، يجمع بيلي الفحم والحطب ويضع الكتل والقطع في أكوام بالقرب من بابه، لأن عمله الوحيد يتمثّل في تدفئة نفسه. عادةً ما أراه في أيّام الطقس المعتدل جالساً على عتبة منزله تحت الشّمس. ألاحظ أنّه يغمض عينيه قليلاً، وربّما يكون هذا السّبب الذي لا يثرثر من أجله عندما أمر. منزله في حجم مرآب منفرد قديم جدّاً. يتساقط الدهان عنه مثلما يذوي شبابه، وألواحه منجّرة ومجويّة. مثلها مثل بيلي. عندما يكون الجوّ بارداً، يرتدي بيلي معطفاً أسود متكتلّاً وباهتاً وقصيراً، عدا عن ذلك، فدائماً ما يرتدي ذات القميص والبنطال الفضفاضان والملطّخان بالشحوم. أظن أن حمّالة بنطاله كانت يوماً ما صفراء، عندما كانت لا تزال جديدة.

 

أسلاك

تزعجني هذه الأسلاك. إذ تم تشويه ثلاث أشجار من أجلها، والآن تشوّه هذه الأسلاك السماء. تتقاطع الأسلاك كالسياج أمامي، لتطوّق الغربان الغيوم. لا أستطيع الوصول إليها، لكنّني أرمي مشاعري فوقها كالعصا. ما الذي يزعجني؟ أنا على مقعدي، بنيت منصّةً هنا، والأسلاك تمنعني من الخروج. لذلك تغضبني الأشجار المقطوعة، والأسلاك السوداء، وكل ما وراء الطيور. وعندما زحفت كالديدان عبر سياج للوصول إلى مرج، هل شعرت يوماً بنفس الأمر حيال الحقل؟

 

كنيسة

للكنيسة قبّة كقبّعة ساحرة، وخمسة طيور، جميعها حمامات، تجثم في مزاريبها.

 

منزلي

تتحرّك الأوراق في النوافذ. لا أستطيع إخبارك عن جمالها، ومعناها. لكنّها تتحرّك بالفعل. تتحرّك في الزجاج.

 

سياسة

لكل أولئك الذين ليسوا واقعين في الحب.

سمعتُ من يصف باتيستا[i] أنّه ماسونيّ. ادّعى ذلك مزارع شاهده في ميامي. باتيستا ألطف شخص يمكنك أن تلتقي به. لكن لا يتحدّث أحد عن كاسترو بالتأكيد.

لكل أولئك الذين ليسوا واقعين في الحب، ثمّة قانون: أن تحكم، أن تنظّم، أن تصحّح. لا أستطيع كتابة شعريّة مثل هذه المقترحات، شعريّة السياسة، رغم أنّني أحياناً- عادةً- دائماً هذه الفترة- أركن إلى ذلك السلام المضطرب للقوى المتساوية التي تشكّل الدولة، ثم أتواصل عن طريق تمرير أوراق، وتصريحات، وأوامر، عبر أحشائي. ومع ذلك، لم أكن دولةً معك، ولم نكن سويّاً أيّ إنديانا. فرقة من أخويّة بنادق بيرشينغ[ii] في الوقت الحالي، أدير نفسي إلى اليمين. التشريع يعتصر برغي أمعائي. حسناً، يا ملك فصل ملك التلّة. لقد اعتدت على التبختر في مشيك لأن منيي بين أرجلك يزرب على منشفة. المعلّم، الشّاعر، العاشق المكتوف- مثل السياسي، مثل أولئك السكارى، مرضى، أو أولئك الذين يتبولون من قلوبهم كالحنفيّة ليعظوا حول قوّة وامتلاء ذلك التدفّق، أو التوقّف لبرهة عن التقيّؤ لتمجيد نقاء وعاطفة تقيؤهم- أهتف، أتوسّل، أخطب، آمر، أغنّي-

عد إلى إنديانا- لم يفت الأوان.

(أو أنّك ستتجوّل حتّى النهاية؟)

إلى اللقاء، إلى اللقاء، آه، سأظل دائماً في انتظارك

يا لاري، المسافر-

الغريب،

الابن،

-صديقي –

 

فتاتي الصغيرة، قصيدتي عن ظهر قلب، نفسي، طفولتي.

لكنّني سمعت من يصف باتيستا أنّه ماسونيّ. ذلك يذهب بشفقتي، ويذيب كراهيتي. عائداً من المرآب حيث سمعت عن الأمر. أضرب صدّام سيارتي المرتّق لأضحك، وأستمع إلى المعدن يلتسع لاذعاً في يدي.

 

أشخاص

لفّ شعرهم في بكرات ولفّت رؤوسهم بأوشحة صاخبة، أمّهات شابّات، يسمنّ في البناطيل، ويأخذن وقتهن في حمّام الشعر السريع، ويدخّن السجائر، ويأكلن الحلوى، ويشربن المشروبات الغازيّة، ويقلّبن صفحات المجلات، ويصرخن على أطفالهن من فوق طنين ودمدمة الآلات.

في البنك ثمّة شاب مكويّ حديثاً يدخل نفسه بمفتاح. وعلى طول الشارع، يتأرجح العديد من الأجداد في المنام برقّة. فتحت حرارة الصيف الإجراميّة، يجثمون على حواف الشبابيك، وتتدلّى أقدامهم في الرف الضيّق الذي أحدثه ظل المتجر، ويحدّقون في الشارع بثبات. ليست لدي فكرة عمّا حدث لوعيهم. فهو ليس في العيون. لربّما هو منتشر، حرارةً وجلداً، كوعي الرضيع، إلّا أنّه أكثر اعتدالاً. بالقرب من الزاوية، ثمّة عدّة رجال ضخام يرتدون المآزر يعملون وقوفاً. تنعطف شاحنة ليتم وزنها على الموازين في شركة العلف والحبوب. تتدفّق الصور على شبّاك الصيدليّة. دفعت الرياح رائحة الماشية إلى البلدة. غارت أعيننا كعيون العجائز. ولا رحمة تنزل علينا.

 

بيانات أساسيّة

هنا، ثمّة مطعمان ومقهى للشاي، وحانتان، وبنك، وثلاثة محال حلاقة يمتلك أحدها مظلّة خضراء يظلّل بها شبابيكه. بقالتان. وكيل سيارات فورد. صيدليّة. محل للمعدّات الثقيلة. محل للأجهزة المنزليّة. عدد من المحلات التي تبيع العلف، والحبوب، والمعدّات الزراعيّة. ومحل للأنتيكات. قاعة للبلياردو. محل للغسيل الذاتي. ثلاثة أطبّاء. طبيب أسنان. سبّاك. طبيب بيطري. محل لخدمات الجنائز تم ترميمه وطلي بلون عشب الحوذان. العديد من صالونات التجميل التي تفتح وتغلق مثل النباتات التي تبرعم ليلاً. محل "كل شيء" بأرخص الأسعار ليس له عرض لكنّه يحتوي على عدّة طوابق. كوخ بني يدويّاً حيث يمكنك، بعد أن تستلقي أو تحشر نفسك للدخول جنباً، طلب قطع أثاث صنعت من أطوال محنيّة من أنابيب ستاينليس، وبلاستيك مشعّ، وخيوط معدنيّة، وشيلاك شفّاف. فرع للفيلق الأميركي، وكشك لبيرة الجذور. وكالات صغيرة لهذا وذاك: مستحضرات تجميل، فرش، تأمين، بطاقات معايدة وأدوات الحدائق- أي شيء- عيّنات أحذية- والتي تمارس تجارتها بالقبّعات وحقائب اليد، على أكواب القهوة والسكّر المذاب. مصنع للأكياس الورقيّة وصناديق الورق المقوّى يتواجد في مبنى قديم من الطوب يحمل لافتة "بيت الأوبرا" الأسطوريّة التي لا تزال باللون الذهبي الباهت، على سطحها. مكتبة تبرّع بها كارنيجي[iii]. مكتب بريد. مدرسة. محطّة قطار. محطة إطفاء. محل لبيع الخشب. شركة اتصالات. محل لحام. موقف سيّارات... ورصدت في البلدة من طرفها إلى الآخر صفٌ على طول الطريق السريعة ممّا يصل إلى خمس محطّات وقود.

 

تعليم

في العام 1833، لخّص كولين غوديكونتز، وهو واعظ جوّال يحمل اسماً من إحدى القصص الخياليّة، الوضع في إحدى مدن إنديانا بهذه الطريقة: الجهل وتفريخها الحقير. مجاعة عالميّة في الفكر. يمارس الامتناع التام عن الأدب بشكل منتشر للغاية... على حد علمي، ليس بينهم عالم في القواعد أو الجغرافيا، ولا أستاذ قادر على تعليمهم... يتم تعليم الآخرين لعدد من الأشهر في السنة بأكثر أشكال تعليم القراءة والكتابة والتشفير تحجّراً ولاعقلانيّة. عليّ التوقّف هنا لتذكيركم بحشد من الزواحف البغيضة في بركة مياه راكدة مؤهّلة للتكاثر. غيرة ناعقة: تعصب مزهو: ريبة أفعوانيّة: عمى فاتر: خبث التماسيح.

تغيّرت الأمور منذ ذلك الوقت، لكن ليس في النواحي المذكورة.

 

تجارة

تم سد جانب من الشارع بمناشير. رجال صارمون نحيفون قبيحون يرتدون بناطيل جينز زرقاء وأحذية وقبّعات رعاة البقر يفرغون حمولة شاحنة من ملاهي متنقلّة صغيرة. يروّج التجّار لأنفسهم. ستكون هناك جولات مجّانيّة، وموسيقى صاخبة، واستعراضات ودمى أرانب، مشروبات غازيّة، بشار، حلوى، أكواز مثلّجات، جوائز ورسومات، وكل ما يمكنك تحمّله من ضيق، ودفع، وزعيق، وتدافع، وصياح، وصراخ، وأزيز، وجئير. يمرّ صبية على درّاجاتهم الهوائيّة المزيّنة، بعجلاتها مغشيّة الألوان، التي تندفع فيها أوراق مجعّدة وكلاب متحمّسة. سيقام بعد ذلك بقليل مسابقة استعراضيّة للحيوانات- للكلاب، والقطط، والطيور، والأغنام، والمهور، والمعز- والتي لن يفوز فيها أحد. تدور الدوّامات حول دورانها. يرتفع الدولاب مدوّخاً في السماء بالقدر الذي يمكن فيه إقناع رجل طويل يقف على رؤوس أصابعه أن يصل إليه، ويقوم مشغّلو الآلات المنزعجون بقياس طول ووزن كل طفل بأعين منتفخة لمعرفة إذا ما كانوا يستطيعون ركوب الآلات بأمان. يعلن مكبّر صوت كهربائيّ مراراً وتكراراً عن أسماء الرعاة السخاة بصوت عالٍ. وفي اليوم التالي، لم يبقوا على النفايات لوقت طويل في الشارع.

 

منزلي، هذا المكان والجسد

ابتليت بسوء الطالع، ذبول الأجنحة، كما يقول أفلاطون بغموض، وعبر اتّساع أوهايو، كالجنّة على الطاولة، هويت بقدر ما هوا الشّاعر، إلى الصّنف السادس من الجسد، إلى هذا المنزل في بي، في إنديانا، بشبابيكه الزرقاء والرماديّة الساحرة، بمساحاته الداخليّة السحريّة المقدّسة. تحمي نباتات ضخمة دائمة الخضرة مدخله. وأنا أعيش في الداخل.

تائهاً بين صفوف الذرة، أتذكّر الشعور بساقٍ أخرى فقط، وهكذا تأخذني هذه البلاد بالطريقة التي أشغل بها نفسي عندما أشعر على ما يرام... تماماً- إلى حواف منزلي وجسدي. لا يعرف أحد، عندما يعبرون، أنّ عيوني تفيض بالدموع في المداخل. منزلي، هذا المكان والجسد، أتيت حادّاً لأولد فيه. الحب: أمر سخيف للغاية بالنسبة لأي شخص آخر. فلماذا أشعر بالفقدان؟ وكيف أثكل؟ لم تكن يوماً لي: كانت خيالاً، دائماً ما كانت حسن صبي لامعة، حافية، بحدبة المراهقين وميل صبياني للرياضة وصيد الأسماك، شخصية من شخصيات تواين، أو أسوأ: رايلي[iv]. العمر لا يرحم.

ثمّة القليل من اليد في اليد هنا... لا يحدث هذا في بي. لا يلمس أحد الآخر إلا غضباً. من حين إلى آخر، تشبك الفتيات أذرعهن مع بعضهن ويسرن متمايلات بعد المدرسة إلى المنزل ويلعبن. حلمت بشفتيّ تنجرفان على ظهرك كقارب شراعي على نهر. أنّني أتتبّع وريداً بطرف أصبعي، أنّني أمسك قدمك الحافية في يدي العاريتين.

 

نفس الشخص

يعيش بيلي هولسكلو وحده- من المستحيل فهم كيف يعيش وحيداً. يتحدّث معي في مكتب البريد بشراهة حول الطقس. يتمايل رأسه على فيض جامح من الكلمات، وأعتبر هذا العنف مقياساً لتوقه للحديث. هو بحاجة ماسة إلى الحلاقة، إذ ترك سخام الفحم طبقات على وجهه، حتّى أنّه يبصق أثناء حديثه، وتعبث أصابعه بملابسه البالية. وعندما أتركه، يتأرجح في الريح، حاملاً كيساً ورقيّاً مهروساً بين طيّة ذراعيه، بينما تتطاير أوراق الشجر من أمامه، ويقودني لقاءه للأسف إلى الشعر- حيث لا توجد إجابة. يغلق بيلي بابه ويحمل الفحم أو الخشب إلى ناره ويغمض عينيه، وببساطة: ليس ثمّة طريقة يمكن فيها معرفة مدى وحدته والفراغ الذي يشعر به أو إذا ما كان مقفراً وقاحلاً ومجرّداً من الحب مثل بقيتنا- هنا في قلب البلاد.

 

طقس

لأننا دائماً ما نفتقد إلى الحظ هنا. هذا هو الوضع بالضبط- في الشتاء على سبيل المثال. تصبح جوانب المباني، والأسقف، وأفرع الأشجار باللون الرمادي. الشوارع، الأرصفة، الوجوه، المشاعر- جميعها رماديّة. الكلام رمادي، والعشب أينما يظهر. كل جناح وجبهة، كل قمّة بالرمادي. كل شيء رمادي: الشعر، العيون، زجاج الشبابيك، فواتير الباعة المتجولين، وملصقات الأدلّاء، الشفاه، الأسنان، لافتات العواميد واللافتات المعدنيّة- كلّها رماديّة، رماديّة جدّاً. السيارات رماديّة. الأبواط، والأحذية، والبدلات، والقبّعات، والقفّازات رماديّة. الخيول، والأغنام، والأبقار، والقطط التي قتلت في الطريق، والسناجب بنفس الطريقة، والعصافير، واليمام، والحمام، جميعها رماديّة، كل شيء رماديّ، وكل من يعيش هنا يفتقد إلى الحظ.

يحوّل سديم مشابه سماء الصيف إلى لون حليبي كثيف وغير رائق، ويلفع الهواء رأسك وكتفيك كسترة علقت بها. وفي نهار الصيف أيضاً، تظلم السماء للحظة عندما تفتح عينيك. القيظ تشويش خالص. فعندما ننتقع في السوائل، ونبتئس في ثنايا أجسادنا، يمكننا بالكاد التفكير في أي شيء عدا أجزاء أجسادنا الدبقة. تجتاح البلاد رياح وعواصف ترابيّة إعصاريّة حارة البلاد. وفي بعض الأماكن، نظراً للضغط الفاتر، ستستمر الرياح بالهبوط لأميال، جامعة الموارد والتخوم في طريقها، بمكر وقوّة. وفقاً للموسم، تملأ الأوراق، وأوراق الشجر، ونفايات الحقول، والحبوب، والثلوج الأسيجة. في بعض الأحيان أعتقد أن الأرض مسطّحة لأن الرياح سطّحتها بهبوبها المستمر. على أي حال، يمكن أن تنبت عاصفة في حقل ذرة مثل تيّار من الجحيم، والتعرّض لها من أكثر التجارب المفزعة في هذه الحياة، رغم أن دهاء ذات الرياح في الشتاء تجربة أكثر إذلالاً، وبهذا المعنى: أسوأ. لكنّها تمطر في الربيع أيضاً، وتمتلئ الأشجار بالجليد.

 

مكان

لا تعدو العديد من مدن الغرب الأوسط أن تكون أكثر من أحياء ريفيّة فقيرة، ويمكن أن يكون هذا المجتمع واحداً منها. خلال العقد الأول من القرن بشكل أساسي، على الرغم من وجود سوابق عديدة، انتقل المزارعون الميسورون إلى البلدة وقاموا ببناء منازل فاخرة لتحتويهم في سنوات تقاعدهم. بينما رغب آخرون بحياة أكثر اختلاطاً بالناس، فعاشوا فيها متوجهّين إلى حقولهم بسيّاراتهم كأصحاب المحال الذين يتوجّهون لمتاجرهم. تموت هذه المنازل الآن مثل الثكلى الذين يسكنون فيها: فهم يفقدون حواسهم ببطء- إذ انتابهم الطرش، والعمى، والنسيان، والغمغمة، والمشي المتزعزع، والارتعاش الذي لا يمكن التحكّم به. سيحتل هذه البيوت نوع من المختالين الشماليين بعد ذلك: عائلات كبيرة، كاثوليكيّة، ديموقراطيّة التحزّب، متعرّشة، مفعمة بالحيويّة، فقيرة، وبما أن الوالدان سيعملان في المدن القريبة الأكبر، سيطلق الأطفال على راحتهم وعلى راحة الجيران سيئي الحظ مثلما أطلق جنكيز خان الخرافي جماعته الأسطوريّة. سيجري هؤلاء المختالون إصلاحات مؤقّتة بمواد تخلّص منها آخرين: سيطلون نصف منزلهم، ثم يتوقفون، ومن شبه المؤكّد امتلاكهم لكلب بشع وصاخب وعدواني، وسيعمدون ألّا يطعموا زوجاً من القطط كثيراً للحفاظ على مستوى القوارض منخفضاً. سيجمعون أكواماً من خردة قد تكون مفيدة في الفناء الخلفي، ويركنون سيّاراتهم أمام المنزل، وسيمضون جزءاً كبيراً من حياتهم وهم يميلون على المحرّكات، من دون أن يلقوا بالاً للأرض، للمجتمع القديم، للطرق المبجّلة، والعشائر المكرّسة. بدأت بالفعل الأرامل الضعيفة بتوظيف شبّان ضخام ووقحين من مثل هذه العائلات لجرف وحصد وتنظيف الأراضي التي سيرثونها.

 

أشخاص

يجلس بين مخلفات الفحم المحترق في المحطّة صبيان يدخنون باستمرار في سياراتهم المظلّلة، بأذرعهم المحنية خارج الشبابيك، وقمصانهم البيض التي تلمع وراء الزجاج. الساعة التاسعة هي أفضل وقت. يجلسون في صفٍّ بمواجهة الطريق السريع- اثنان أو ثلاثة أو أربعة منهم- بمحرّكات نصف مطفأة. وعندما تمر بالجوار، قد يهدر المحرّك عليك أو قد يضاء زوج من المصابيح الأماميّة لوقت قصير. وفي لحظة، ستغادر إحداها، تاركةً الرماد يدور وراءها، لمطاردة الشوارع المظلمة صعوداً ونزولاً بعجالة، أو تحدث جلبة في نصف ميل من البلاد قبل أن تعود لمكانها في الصف وتتوقّف.

 

منزلي، قطّي، صحبتي

عليّ أن أنظّم حياتي. عليّ أن أستجمع قواي كما يقولون، وألقي هذا القطّ من حضني، أن أتحرّك- نعم، أحل الأمور العالقة، وأتحرّك، وأفعل. لكن أفعل ماذا؟ إرادتي مثل الضوء الوردي المغبر في هذه الغرفة: ناعم، منتشر، ومريح بلطف. ويدعني أفعل... أي شيء... لا شيء. أذناي تسمع ما تسمعانه، آكل ما وضع أمامي، عيناي ترى ما أخطأ طريقه أمامهما، أفكاري ليست بأفكار، بل أحلام. فإمّا إنّي أجرد أو متخم، حسب، ولا يسعني الاختيار. أغوص بأصابعي في فراء السيّد تِك وأحك عظام ظهره حتّى ترتفع مؤخرته بشبق. عليّ أن أنظّم حياتي يا تِك باشا، أهمهم. عليّ أن أستجمع قواي. ويتدحرج تِك باشا على بطنه الموحلة.

أُسقط تِك باشا بعد أن فكرت بطنه. حا. يغادر ببطء وذيله الطويل يتحرّك بتناغم مع مخالبه. كم يتحرّك بشكل جميل، أفكّر: كيف، مثلك، يفرض علي أن أحبّه بشكل جميل، كيف يقبل هذا الحب بشكل جميل. وهكذا أنهض وأتجول من غرفة إلى أخرى، صعوداً ونزولاً، محدّقاً عبر معظم شبابيكي الواحدة والأربعين. كيف يتلقّى هذا المنزل حبّه أيضاً بهذه الطريقة. أخرج مثل تِك باشا، تغوص عيناي في الشجيرات. أنا لست هنا: فقد عبرت الزجاج، ومررت بمساحات الطابق الثاني، وطفت وراء الأفرع، وأشجار التوت البهيّة، إلى الأرض، على العشب الذي يرمي بذوراً وأوراقاً كثيرة في كل موسم، وهذا ما حدث عندما مررت فوقك بجسدي المسن المتّقد، إنّه، باختصار، نوع من أنواع الحب، وأنا أتعلّم ترميم ذاتي، ومنزلي، وجسدي، عبر العناية بالحدائق، والقطط، والمياه الجارية، وصحبة الجيران.

السيّدة ديزموند صديقتي المقرّبة، والتي يبلغ عمرها 85 عاماً. يعكس شعرها الناعم والمتشابك الذي يشبه غمامة بيضاء رقيقة حالة عقلها. إذ عادةً ما تكون شكّاكة، وقلقة، وعصبيّة. من اقتحام اللصوص ظهراً. من تعدّي الأطفال على ممتلكاتها. حتّى أنّهم الآن يهزّون شجرة الإجاص، ويسرقون أعشاب الراوند، ويبعجون المرج. يعلق الذباب في المناخل ويتخدّر بفعل الصقيع، وعندما توقظه الحرارة يطن ويكشط الغطاء المعدني ليخيفها، رغم أنّها صمّاء بالنسبة لي، وبالتالي لا يمكن لها سماعها. تطلق الألواح صريراً، وتصفر الرياح عبر فوّهة المدخنة، ويسبح تيّار هواء كالسمك عبر الغرف الفارغة. إنّها تسمع نفسها، تسمع لحمها وهو يتساقط، لأن الموت وحده سيقيها من المهام اليوميّة التي تنجزها بصعوبة كصعود الدرج، وكل ذلك الانتظار المهموم. وتتساءل: هل سيحدث الآن؟ لا؟ إذاً: هل سيحدث الآن؟

نحن لا نتحدّث. تزورني لتتحدّث. وتكمن مهمتي في الهمهمة. تتحدّث عن أحفادها، وابنتها التي تعيش في ديلفي، وشقيقتها وزوجها- الميّتان- والأصدقاء غير المعروفين- الذين ماتوا- وعمّاتها وأعمامها غير المعروفين- الذين فقدوا- والجيران القدماء، وأعضاء كنيستها ونواديها- الذين ماتوا أو يحتضرون: وبهذه الطريقة تجمع أطراف حياتها معاً باندفاع مرعب: فهي صبيّة، وزوجة، وأم، وأرملة في آن واحد. في آن واحد- أمر مرعب- لكنّني أصدّق ذلك: جفلت انتظاراً للتصفيق. كلامها سياج- ظل مشدود، ونافذة موصدة، وباب مغلق- لأنّه لا يموت أحد وهو يشرب الشاي في المطبخ، وبينما تنكمش سنوات حياتها وتبدأ بالتشوّش، أؤمن فعلاً بأن الحياة قصيرة: أغرق في تساؤلاتي: الموت هو الكلب في نهاية الطريق، الأوز الغاضب، عنكبوت في غرفة النوم، العفريت الذي جاء ليأخذها، ويخطر لي في هذا الوضع الذي أجلس فيه مستمعاً أنّني ذلك الصبي الذي عانى من هراء جدّي بنفس الأدب تماماً، أنّني أنا الآن جميع أعماري، في أرذل سنوات العمر، ساهماً، أخرقاً كبطاقات تكدّست بشكل سيء. وهكذا كنت عندما أحببتك كل رجل استطعت أن أكونه، شاباً وطفلاً- ولم يكن ذلك كافياً- وأنتِ، ذلك الكائن الغامض للغاية، لبّيتني، بالكبة مقابل البستوني، لعبة بعد أخرى، وفي كل أوراق لعبنا.

تِك باشا، أنت تشرّفني. فأنت لا تضطّجع في حضني فحسب، بل تبقى حيّاً هناك، ملفوفاً كالجنين. أشعر بهمهمتك في قيلولتك العميقة. أنت، أنت لست آلةً. أنت على قيد الحياة، حيّ تماماً، والأمر لا يعنيك البتّة، لكنّه يعني الكثير لي. أنت قط- ولا تستطيع فهم ذلك- أنت قط بهذه السهولة. طبيعتك ليست أمراً عليك أن ترتقي إليه. أنت، ليس أنا، تعيش في الداخل: في المنزل، في الجلد، في الشجيرات. نعم. أعتقد أنّه علي ارتداء قبّة برج كنيسة: أصير كنيسة: أفترس الناس. على الرّغم من ذلك، يمتلك تِك باشا ذيلاً يمكنه نفضه، وليس بحاجة لأن ينسج خيالات. المخالب غير مرسومة بوزن مثالي، مخالبه شِعر: وبينما ينعم وينعم وينعم لسانه بقسوة، يلعق هندامه. أنا أعرف يا تِك باشا: أنت قضيب كهربائي. اذهب الآن، حا. السيّدة ديزموند لا تحبّك. وتعتقد أنّك ستتخبّط بين ساقيها حتّى تقع. تعرف أنّك ستقتل طيورها، وتسير عبر سقفها وأنت تحمل الموت بين فكّيك. عليّ أن أستجمع قواي وأعزم أمري. أتساءل عن العمر الذي بلغته الآن. ألا يقولون أن القلب يحمل العمر الحقيقي؟ تطرق السيّدة ديزموند الباب بوهن، كما تعتقد، لكنّها تدقّ بقوّة. جلبت لي خيارةً. أعتقد أنّها تعتقد أنّني امرأة. ادخلي يا سيّدة ديزموند، شكراً لك، نادميني، تبدو حلوة، واشربي الشاي. سأقطّعها، مقرمشة، مع قشطة، للغذاء، كل شريحة نحيلة مثلي.

 

سياسة

يا أنتم جميعاً قوموا بعزل وفصل القوى، وغنّوا، غنّوا، وغنّوا بطريقة تسمع من على بعد بتناغم، كمسرحيّة لستريندبيرغ[v]، كخاتم صداقة، بسعادة- سعادة، سعادة، سعادة- حيث نشبك يداً بيد، صعوداً ونزولاً. كان اتّحادنا غناءً، على الرغم من أنّنا كنّا صامتين في الأغاني التي غنّيناها كصمت النوتات المنفردة في سيمفونيّة. سكرنا وغنّينا تناغميّاً أربعةً أربعة لبعضنا ولم نسمع نشازاً في موسيقانا أبداً، ولم نجد أنّنا متّسخين، أو رخيصين، أو سخيفين. لكن المحتجّين، الذين لم يعجبهم غناؤنا، كانوا يرتدون أحذية أفضل من تلك التي رموها علينا خلال أدائنا لأغاني الحب. ششش. اصبري- بحصافة- أيتها السياسة. فمع ذلك، قتلتك كليفلاند يا سيّد كراين[vi]. ألم تكن سياسيّاً بما فيه الكفاية لتكون مولعاً بضربك؟ تغوّطتك المدينة، كمياه المجاري، من مؤخّرتها على بعد 300 ميل من التاريخ- بعيداً عن متناول البحّارة الوديع. في الواقع أنا لست شاعراً ليضع باريس في معبده أثناء شبابه ليفجّر نفسه في آيداهو، أو- تخيّل ذلك في- ميزوري[vii]. قلت: يا إلهي، هذه هي بلادي، لكن هل كان على بلادي أن تتمادى في المسافة مثل تيري أوت، أو وايتينغ، أو بعيداً للغاية مثل غاري[viii]؟

عندما أعلن الروس إطلاق قمرهم الصناعي لأوّل مرّة، رفض الناس تصديقهم بالطبع. بعد ذلك، شعر آخرون بالغضب لإرسالهم لكلب ليدور حول الأرض. قال صائد كلابنا: لن أود أن أخرج ذلك الكلب الهجين من تلك الحديدة الطائرة إذا ما كان حيّاً عند هبوطه. الجميع يعرف أنّك إذا حبست كلباً وحده لينقذف بهذه الطريقة فأوّل ما سيقوم به عندما تخرجه هو عض شخص ما.

هذا الغرب الأوسط يتكوّن من أجزاء وأشخاص متنافرين، ونحن تناغم المدن. كرجل أصبح بديناً في كل جسمه عدا قلبه، نحن نعمل فوق طاقتنا، فلم تكن يوماً نظرتنا حضريّة، ولم تكن ريفيّةً أيضاً، إذ نتضخّم ونتباطأ في نفس الوقت، كما تغيّرت أليس وبقيت في قصّتها. أنتِ شقراء. أضع يدي على بطنك: أشعر به يرتعش بسبب ارتعاشي. دوماً ما نقود سيّارات كبيرة في ناحيتي من البلاد. كيف يمكنك أن تكوني مصدر راحتي الآن؟

 

المزيد من البيانات الأساسيّة

يبلغ طول البلدة بالضبط 50 منزلاً، ومقطورةً، ومتجراً، ومبان متنوّعة، لكن بعض الأماكن لا تصلها الشوارع. وبينما تقود سيّارتك إلى الجنوب، تزداد عرضاً في الشرق باستمرار. معظم المساكن منازل زراعيّة فسيحة إلى حد ما مدهونة باللون الأبيض المعتاد، بشرفات عريضة ملتفّة وشبابيك ضيّقة وطويلة، رغم أنّه ثمّة العديد من الأنواع الأفخر- مزخرفة، ومنقوشة، ومبرّجة، ومزيّنة بألواح خشبيّة وضعت على الزوايا أو الأطراف، مع نوافذ بزجاج معشّق في مناور الدّرج والكثير من الحديد المشغول بضفائر فخمة- كما أن عدد منها تبدو كالقلاع بطوبها الأكثر ندرة. تشغر مواقف السيارات محل الاسطبلات القديمة الآن، وقطع الأراضي كبيرة بما فيه الكفاية لتحتوي المنازل وحدائق الخضار والأزهار، والتي تزرعها وتعّشبها الأرامل في نهاية المطاف ثم تختفي فيها كليّاً. الأماكن الظليلة فسيحة، والعشب جميل، والسماء مصبوغة باللون الأرجواني الخريفيّ البهي، أشجار التفّاح كثيفة وحمراء، والطرق هادئة وخاوية، تغربلت الذرة من سلسلة العربات الجرّارة لتلطّخ الشوارع باللون الذهبي وفتات الأكواز الخمريّة، وسيكون المرء، الذي ينعم بهذا، أحمق لو أراد أن يعيش في مكان آخر من هذا العالم.

 

تعليم

تسير الحافلات التي تشبه حيوانات برتقاليّة عملاقة في ضوء الصباح إلى المدرسة. هناك حيث سيتم تعليم الأطفال القراءة ويتم تحذيرهم من الشيوعيّة من قبل الآنسة جانيت جايكس. هذا ليس اسمها. اسمها هيلين شيء ما- سكوت أو جايمس. وبعد أن أمضت 20 سنة كمعلّمة، اهترأت وأكل الدهر عليها وشرب، وتمتلك وجهاً يشبه فأساً طلب بالبريد، كما يقول ويلفريد. تمتلك صوتاً أجشّاً، وتسعل باستمرار لأنّها تصرخ شاتمةً. يحدّق الأطفال بها بوجوه خالية من التعبير. هذا هو الأسبوع الثالث عشر. وقد اعتادوا الأمر. تصرخ: ستقومون الآن برسمي. لا. هي السيّدة- زوجة أحدهم. ويشرعون بالعمل بصمت بينما تقرص الدبابيس في شعرها. يقول ويلفريد أنّها تشبه فأساً، لكنّها تكتلك تلك النظارات المظلّلة بدون إطارات، وشعراً أشيب، وذقناً بغمازة تكاد أن تظهر. عليّ أن أركّز. عليّ ألّا أختلق الأمور. عليّ أن أهب نفسي للحياة: أدعها تشكّلني، هذا ما يقولونه في ويزدومز منذلي دايجيست يوميّاً. كفى، كفى- أمضيت وقتاً طويلاً في التفكير بالأمر، ثم ينهض الأطفال ليشكّلوا صفّاً تلو الآخر ليعرضوا رسماتهم لها على مكتبها. لا، يوجد إطار لنظاراتها، لكن ذقنها الذي لا توجد فيه غمّازة. طيّب، يحتاج الأمر أكثر من مجرّد بعض التحسينات لتلطيف هذا الوجه. وهكذا تقلّب أوراقهم بتجهّم، وتفحص انعكاسها المرسوم بأقلام الألوان عليها. لا أجرؤ على السماح لطفل برسم خط واحد لي. لكنها تبتسم من حين إلى آخر مثل شقّ في نصل، لكن الرسومات تحزنها في النهاية. أنا لن أتحمّل ذلك- كيف أمكنها أن تطلب؟- أن يرسمني أي شخص. اشتعل غضبها. هذا هو سبب قيامها بذلك: الشعلة. يمتد إلى عينيها: يضيء اللون الوردي في نظّاراتها وينطفئ. تشبه قرعة، وغضبها يتنفّس كالشمعة فيها. تصرخ: لا، لا- يهتزّ ورق الكرتون- لا يا جون ماوك، جون ستيوارت ماوك، لن ينفع هذا. ترفرف الرسمة بين أصابعها. جعلتني أبدو وكأنّني لدي عضلات كثيرة.

أعمل على قصائدي. أتذكّر أصدقائي، وزملائي، وطلابي بالاسم. أسماؤهم هي مايبوب، دورماوس، أبسيدايزي. أسماؤهم هي: غلاديولوس، كالو بلايدر، الأمير والأميرة أوليو، هيرونيموس، الكاردينال مممممم، السيّد فيتشو، الهودج الحريري، سبوت. أحياناً أنتِ توم سوير، هاكلبيري بين، إنّه صيف دائم، ردفاكِ وسادتي، نبحر على طوف من دون هدى، ظهركِ نهرنا. أحياناً تكونين الرائد باربرا، أحياناً إلهة تقتل الرجال في معركة، وأحياناً ناعمة مثل دشّ مياه، أنتِ خبز في فمي.

لا أعمل على قصائدي. أنسى أصدقائي، وزملائي، وطلابي وأسماؤهم: غرامافون، بندقية النفخ، مخلل، غزليّة... مارج ذات الأبراج، ساحة، أوبرهاوبت... الدكتور ديلدو، آلة الضباب. لأنّني الآن في بي، في إنديانا: بلا عمل أو صبر، بلا حبّ ولا وقت ولا نقود، بلا خبز وبلا جسد، بمزاج سيء، يا سيّدة ديزموند، وبلا شاي. لذا، أغلقي كندرتك يا شرموطة، يا كومة العظام، واذهبي لتقرعي باباً آخر، موتي، يا عزيزتي. موتي أيتها العجوز التي لا تنصت إلى الحياة. أطلقي أنفاسك الأخيرة. واسقطي كلوح متجمّد. ينمو الشيب من أنف عقلك. تحوّلت إلى جمجمة بالفعل- جمجمة تذكّر أنّك ستموت[ix]- تنكمش القلفة عن أسنانك. هل ستدوم لثتك البلاستيكيّة أكثر من عظامك وتلوّن ابتساماتها؟ وهل لا يزال كسّك مشعراً بندقّ اللون، أم أنّه أجرد كأخدود؟ شرموطة، شرموطة، شرموطة. أردت أن أكون معروفاً، لكنّكِ تأتيني بالمزيد من العمر- فراغي. ما كان ذلك الذي اعتقدت أنّه سيرفعني فوق الآخرين؟ الحب؟ أين أنتِ؟ أحبّيني. قلت أنّني أريد أن أرتفع عالياً حتّى عندما أتغوّط لا أخطئ أحداً.

 

تجارة

بالنسبة لغالبية الناس، الأعمال بور. إذ سحبت المدن القريبة جميع أنواع التجارة إلّا التجارة المحليّة. فعدا عن العلف والحبوب ومعدّات الزراعة، لديك فرصة في بيع ما يحتاج المرء لشرائه فقط. أغلق محلا شيفروليه وفريجيداير. أغلق مصنع الأقفال تاركاً ظلّه. ومرّ ستّة أشهر على إغلاق مصنع الأخشاب حتّى الآن. تغيّر محطّات الوقود ملكيّتها بشكل أخرق، ويفرغ مطعم، ويغلق محل بقالة. ذات يوم جاؤوا وأزالوا ديكورات محل تصليح الساعات وألصقوا ملصقات لحملة انتخابات على الشبابيك. تحثّ الملصقات، التي مزّقها صبية الآن، على التصويت لرجل مرصّع باللون البرتقالي والذي خسر قبل عامين ليفوز بهذه الانتخابات. وبهذه الطريقة، يتحدّث الماضي، وغالباً ما يتحدّث عن الفشل. المحلات الفارغة، اللافتات القديمة والإضاءة المغبرّة، أكوام الأنقاض في الزقق، الطلاء المتقشّر والمزاريب الصدئة، الأقفال الكبيرة والألواح المتهدلّة: كلّها تخبرك ذات الأمور البغيضة. أتساءل عمّا تراه الشبابيك التي لا تطل على شيء عندما ترمي الشمس عليها أحد المارّة؟ ينفتح هنا درج نحو الشّارع- المظلم والمتهالك والغدّار- ودائماً ما أشعر وأنا أمرّ به أنّني إذا صعدت بحذر وقلبت الزاوية عند الهبوط، أنّني سأجد نفسي خارج العالم. لكنّني لم أمتلك الشجاعة لفعل ذلك أبداً.

 

ذات الشخص

أدركت الحشائش بيلي. ففي سعيها وراء نباتات الخطمى، ارتفعت بأجمّات غليظة حول كافة مساحات الجزء الأمامي من منزله. على بيلي أن يتجاوز حلقة على بابه كما يدور كلب أو قط حول نفسه ليركن إلى مأواه، الحشائش سميكة جدّاً. ما يزعجني على وجه التحديد أن الشتاء سيحل على الحشائش وهي لا تزال متصلّبة وقابلة للاشتعال من الشرار الذي تطلقه مدخنة بيلي الجافّة. صحيح أن الحرائق ممتعة هنا. تنطلق صافرات البلدة، والتي لا تنطلق في غير هذه الحالة إلّا عند حلول الظهر (وليس ثمّة ظهيرة في أيام الأحد)، مشيرةً إلى اتّجاه الحريق عبر طول وعدد الصفرات، ليهرع رجال الإطفاء المتطوعين بسياراتهم وشاحناتهم، وتلفظ المنازل أصحابها على طول الشارع في كل مرة كرسمة في كتاب للأطفال. ثمّة العديد من الدراجات الهوائيّة أيضاً، والكلاب النابحة، وأحياناً- هللويا- الحريق هنا في البلدة- أراضٍ فارغة مشتعلة من الحشائش والقش. لكنّني أفضّل ألّا يكون بيلي أو أرض بيلي أو منزل بيلي. فبأنانيّة تامّة، أريده أن يبقى على ما هو عليه- عادّاً عصيه وسجلاته، جالساً على عتبته تحت الشمس الباكرة الناعمة- على الرغم من أنّني لست متأكّداً ممّا يعنيه لي حضوره... أو ما يعنيه لأي أحد. ومع ذلك، لا أزال أتساءل إذا ما لم أجد يوماً ما، مع مرور الوقت، تشبيهاً في لغتنا من شأنه أن تعطيه حقّه بأمانة، وتمدّه بثراء فقره ووحدته.

 

أسلاك

حيث تجلس الغربان مثل القبضات. والحمام يطير من برج الكنيسة. في الضباب، تغيّر الأسلاك منظورها، فترتفع وتتجدّل. فإذا ما قيدت إليك، لن أعرف ما هي. عادةً ما تمرّ الأفكار كطيور الزرزور الذين يحتشدون في جماعات كبيرة في هذه الحقول مساءً للنوم في الأشجار خلفها، لتشكّل عائلة من المسارات على هذا النحو، ويهبطون من ارتفاع الهواء الطبيعي إلى مجثم طائر تقريباً. لكنّها لا تقودني إليكِ.

 

إلى من تغنّوا بجمالك

تلك التي تجعل العجوز شابّاً.

تقيّدني.

إذا مشيت مباشرة، في مزاجي الحالي، سأصل واباش[x]. لكنّه ليس مزاجاً أختار فيه استحضارك. تتدلّى التشبيهات منّي كالحلي الرخيصة. النهر بطيء وضحل في هذا الوقت من العام، وتتشقّق ضفافه الطينيّة تحت الشمس، وتفاجئ الحشائش الحواجز الرمليّة. الهواء رطب وأنا أتعرّق. من المستحيل التقفية في هذا الغبار. يبدو كل شيء- السماء، وحقل الذرة، والجذع، والاقحوانات البريّة، وملابسي القديمة، وأحاسيسي غير المكويّة- مصنوعة للبيع بالتقسيط. نعم، أيّها المسيح، أنا أعاني من عيد ميلاد صيفي، ولا أستطيع المشي تحت الأسلاك. تتناثر الغربان كحفنة من الحصى. بالفعل، الأسلاك هي أصوات في شرائط رفيعة. كلمات مفتولة في الكوابل. قضبان التواصل.

 

طقس

أفضّل أن يكون الطقس هو السبب فيما أنا وأصدقائي وجيراني عليه- نحن الذين نعيش هنا في قلب البلاد. من الأفضل أن يكون الطقس، والريح، والثلج الشّاحب الفاني... الثلج- لماذا لا يكون الثلج؟ ليس هناك الكثير منه بالفعل، ليس حول البحيرات السفلى على أيّ حال، والذي لا يكفي للتباهي به، ولا يكفي للاستفادة منه. يخبرني والدي كيف كان الثلج في داكوتا الشماليّة والجنوبيّة يكتسح أسطح الحظائر في الأيام الخوالي، وكيف كان بإمكانه هو وأصدقائه التزحلق على القشرة التي تشكّل لأن الثلج كان مزجّى بشدّة. عرف عن الأشجار في بيدميدجي[xi] أنّها تنفجر. سيكون ذلك أمراً رائعاً- إذا ما انفجرت الأشجار في دافينبورت أو فرانسيفيل أو كاربوندايل أو نايلز[xii] في أحد الشتاءات- طاخ طيخ، طاخ طيخ، طاخ طيخ، على طول الشوارع الرماديّة المتجمّرة والمتخمة بالثلوج.

تسودّ الأشجار تحت مطر خريفي بارد، أو أن الهواء مثل الليلك ومليء بالبذور الهابطة بالمظلات. من ذلك الذي يريد أن يعيش في فصل غير فصله؟ لا زلت أخمّن أن السر يكمن في هذا الثلج، سر سقمنا، لو تمكّنا فقط من تشخيصه، لأنّنا نموت جميعاً كأشجار الدردار في أوربانا[xiii]. هذا الثلج- مثل جلدنا يجلّل البلاد. سيقوم الغبار بهذا الدور لاحقاً. لكن الآن- الثلج يفعل. الطين حاليّاً. لكنّه الثلج الخاوي، شحم رمادي باهن ينتشر بوهن على خبز محمّص، وإذا بدا ذلك تشبيهاً غريباً، فهو دقيق تماماً. يسوّد السخام كل شيء بالطبع، لكن عدا عن ذلك، لا نبرد بشكل كافٍ هنا. إذ لا يمكننا الإبقاء على النّدف التي تأتي مشتعلة بنشاطها، لأنّه إذا ما انخفضت درجة الحرارة، ترتفع على الفور مرّة أخرى، مثلما يحدث في الصيف، وتتأرجح بنفس الطريقة الواهنة. لنفترض مثلاً، لنفترض أن النّدف ترتفع في آب، تتسلّق وترتفع، ثم تعلق بالمئات كالصقر في كانون الأوّل، ياللصحراء التي يمكننا أن نقيمها من أنفسنا- من شيكاغو إلى القاهرة، ومن هاموند إلى كولومبوس- يالوديان الموت الجميلة.

 

مكان

كنت أفضّل أن يكون الطّقس. إذ يدفعنا للانغلاق على أنفسنا- وهو مصير مشؤوم. هناك بالطبع ما يكفي لإثارة دهشتنا: ثمّة ما يكفي للحب، في أيّ مكان، إذا ما كان المرء صلباً بما فيه الكفاية، إذا ما كان المرء مجتهداً بما فيه الكفاية، إذا ما كان المرء مدركاً، وصبوراً، وطيّباً بما فيه الكفاية- مهما كلّف الأمر، ومن الأفضل بالتأكيد أن تعيش في الريف، أن تعيش في سهوب في أيّ رسم لأنهار، في أيوا أو إيلينويز أو إنديانا، على سبيل المثال، أفضل من العيش في أيّ مدينة، في أيّ غمامة كرية الرائحة من البشر، في أيّ بستان مزهر بالآلات. يجب أن يكون الأمر كذلك. فالمدن متخمة ومسمومة بالناس. يجب أن يكون الأمر أفضل من ذلك. إذ لم يكن الإنسان بيئة صالحة للإنسان- بل ربّما للفئران، ستصلح الفئران في هذه البيئة، أو للكلاب أو القطط والحشرات المنزليّة.

وكم طويلة هي الشوارع هذه الأيّام. تم إسقاط هذه الجدران اللانهائيّة لكبح تيّارات مد وجزر الأرض. يمكن أن يكون الطوب جميلاً لكنّنا غطيّناه تدريجيّاً بقيء صناعي رمادي. لا تتلّطف الخرسانة بمرور العمر، ودائماً ما يبلغ عمر الإسفلت- مثل أميركا- 21 عاماً، حتّى يتكسّر إلى فتات كالكيكة القديمة. الطوب، والإسفلت، والخرسانة، واللافتات الراقصة والملصقات المبهرجة، علف المركبة ومخلّفاتها، وفضلات ساكنيها: كل هؤلاء يشكّلون ويزيّنون ويكسون شوارعنا، وليس ثمّة مكان لا تستطيع أن تصله شوارعنا هذه الأيّام.

لا يمتلك الشخص في المدينة شيئاً طبيعيّاً ليقيس به نفسه. إذ تتكون حدائقه من نباتات مزروعة في قوارير. لا يمكن لأي شيء أن يعيش ويبقى حرّاً حيث يسكن ما عدا الحمام، وطيور الزرزور، والغربان، والعناكب، والصراصير، والفئران، والعثّ، والذباب، والحشائش، وهو ينوح على وجود حتّى هؤلاء ويخطّط لتسميمهم. حديقة الحيوانات؟ ثمّة حديقة حيوانات. والتي يحدّق رجل المدينة عبر قضبانها بالقطط الكبيرة وهو يمتصّ مثلّجاته بسأم. يفترض رجل المدينة، للأسف، أنّه بالعيش مع الناس وعجائبهم، أن سعادته تعتمد على إنشاء نوع خاص من التوافق المتناغم مع الآخرين بطريقة أو بأخرى. يسمّي روائيو المدينة، روائيو العشوائيّات والحشود، هذه الطريقة حبّاً- ثم يكسرون أقلامهم.

خشي ووردسوورث[xiv] من تراكم الناس في المدن. وتوقّع "ظمأهم المذل للإثارة الفاحشة"، وبعض جوعهم للحب. تقتصر علاقات الشخص الذي يعيش في المدينة بين الكثير من الناس، والمكوث تحت ظل حرارة وصخب الحركة المستمرّة، على اللمسات العابرة- هذا كل شيء. لذلك ليس من المستغرب أن يجد روائيو العشوائيّات، روائيو المدن، والحشود، أن الجنس ليس سوى خدش لتخفيف النغز، وأنّنا نبلغ منتهى إنسانيتنا عندما نكون جالسين على المرحاض، وأن الصورة الأكثر عدلاً لحياتنا تكمن في المرور المباشر عبر أنابيب المياه.

ذلك الرجل، المنغمس في المدن، لا يزال يحتفظ

بعطشه الفطري الذي لا ينفد

للمناظر الريفيّة، معوّضاً فقده

بالمناوبات الإضافيّة، وهي أفضل ما يمكنه فعله.[xv]

تعال إلى الريف إذن. فالهواء يزكّي نفسه برشاقة وعذوبة لحواسّنا الوادعة. هنا، تمزّق الجرّارات الهادرة الأرض. مبعثرةً الغبار وراءها. يجلس السائقون وهم يتخضخضون تحت مظلّات بألوان برّاقة. مرتدين قبّعات مبرّدة في الثلاجات ويسيّرون طريقهم بالنظر إلى المسارات التي قطعوها خلفهم، بينما تدوي ترانزسيتراتهم. هل هم مقربون من الأرض؟ هل هم رفقاء جيدون للتراب؟ أخبرني: هل يتعايشون بانسجام مع تعاقب الفصول؟

الأمر كذبة من كذبات الشعر القديم. يستخدم الفلّاح العصريّ مواد كيميائيّة من اسطوانات وأكياس، وآلات للحراثة بأسنان وكرات وأشواك، وحظائر معدنيّة، ومحاسبة التكاليف. الطبيعة في معناها القديم ليست أمراً مهمّاً. وغير موجودة. يكمن ارتباط مزارعنا الروحاني الوحيد في التكافؤ. وإذا لم يدرك أن الأبقار والذرة هي ببساطة أنواع مختلفة من الآلات الكيميائيّة، فلا يمكنه التوقّع أنّه سينجح بالأمر.

ليس من الضروري الافتراض أنّه لدى أبقارنا مشاعر، ولا يمتلك جارنا نفس العدد الذي كان يمتلكه، لكن فكّر بالموضوع بهذه الطريقة للحظة، يمكنك تصحيح الافتراضات البشريّة لاحقاً: كيف سيكون شعورك عندما ترضع تلك العجول الغريبة ذات المجسّات بشفاهها المطاطيّة، والزجاجيّة، والمعدنيّة، وأعينها التي لا تصدأ؟

 

أشخاص

لا تزال الخالة بيت قادرة على قيادة سيّارتها- وهي سيارة فورد عالية ومربّعة الشكل- على الرّغم من أنها تمشي بصعوبة وبمساعدة عصا سميكة. تمتلك نظرة فارغة ورطبة، ووجهاً ممتلئاً وناعماً على الرغم من عمرها، وشعر أسود فاحم معقود بربطة. تمتلك أبطأ ابتسامة رأيتها لأي شخص آخر، لكنّها تكره الكلاب، ولم يمض وقت طويل على كسرها لظهر كلبة حاصرتها في حديقتها. ستخبرك بذلك لتثبت حيويتها، وتفلت ابتسامتها بوداعة عندما ترفع مقبض عصاها إلى مستوى عينيك.

 

منزل، أنفاسي وشبّاكي

شبّاكي قبر، وكل ما بداخله ميّت. ليس ثمّة ثلج يهطل. ليس ثمّة ضباب. لا يتحرّك، وليس صامتاً. وصوره ليست صوراً لحيوان ينتظر، لأن الحركة ليست عرضاً توضيحيّاً. لقد شاهدتّ البحر يتخاذل، والحياة تفور عبر جسدٍ بلا أثر، ونطاقاته منيعة كمناعة مشروب غازيّ. وحيثما اتّجهت الرياح، تطقطق العاهرة وتهذر في لعبة مطاردة ماجنة. تهتزّ أوراق الأشجار. ويتأرجح العشب. يزقزق طائر وينقر الأرض. يدور عجل سيّارة في دوائر محصورة بينما يرزح تحت المكابح القويّة. هذه الصور حجارة: نصب تذكاريّة. فتحت هذا البحر يكمن بحر: رحمه الله... رحم العالم خارج شبّاكي، رحمني وأنا أمام انعكاسي، فوق هذه الورقة، رحم ظلّي. الموت ليس ساكناً جدّاً، وليس صامتاّ جدّاً، لأن الصمت يلمح إلى الإخماد، والسكون يلمح إلى التوقّف، واللجم، والضبط، لأن الموت مجرّد وقت في ساعة، مثل تيك باشا، كهربائي... مثل الرياح التي تعبر شاعراً منهكاً. ويطفو عمش عيني مرئيّاً مقابل الزجاج، ليشوّش بلاده ويبلّل نفسي. يرتفع السّديم من الحقول في الصباح ببطء. لن يقول أحد الآن: الأرض تزيل غطائها وتنهض من نومها. لماذا هذا الشعور بالحماقة؟ الصورة يونانيّة أكثر ممّا ينبغي. اعتدت على التحديق بكِ بشهوانيّة حتّى يحمر جسدك خجلاً. تصوّري: تعجّبي: أن عيناي قادرتان على التسبّب تفتّح كهذا.  آه يا صديقي، وجهك شاحب، والسماء غائمة، تم مدّ شارع عبر ذقنك، والأشجار العارية لا تفعل شيئاً، والمنازل تتجذّر في مستطيلاتها، ويقف برج كنيسة في رأسك. تتحدّث عن المحبّة، إذاً أعطني قبلة. درفة الزجاج هذه باردة. في الصباحات الجليديّة ينهض الضباب ليحييني (كما كنتِ دائماً تفعلين)، وتبدو الحظائر والمباني الأخرى، عدا عن أنّها تبدو كخيالات، أكثر أهميّة من أن تلوح في الأفق، كما لو أنّها نمت لتصبح مبانٍ وأنا أشاهدها (كما كنتِ دائماً تفعلين). آه كان أسلوبي، كما أعتقد، مثل تنفّسٍ في قرد مطّاطي. ومع ذلك، ومع أن الأشجار، في الطريق على طول واباش صباحاً، يحجبها الضباب أحياناً، إلّا أن انعكاسها يطفو صافياً على النهر، جاعلاً الضفاف وأشجار الجمّيز تبدو وكأنّها صفوف جنود فرنسيين. ينقلب العالم بطريقة سحريّة. يقودني ذلك إلى الاعتقاد بأنّه فقط أولئك الذين يتجذّرون يعيشون (الجملة التي ستربح لي بالكاد 25 دولاراً من مجلّة الحكمة الشهريّة)، لكنّني وجدت نفسي أكتب أنّه فقط أولئك الذين يتجذّرون يعيشون، وأنا أحمّل ما أكتب كل ما أعرف حقّاً. قُلبتْ كل كلمة من كلماتي، أو عُكستْ- أو حدث لي ذلك. تمسّكت بك، أيضاً، بتلك الطريقة. إذ كنتِ في حالة مؤقّتة تماماً، وخاضعة للتغيُّر الذي يحصل لي. يمكنني أن أنفخ صدرك بقبلة، أن أشتّت جلدك بوداعة، أن أدخل مهبلك من الداخل، وأن أجعل حبّي يتجلّى كجنس طازج. درفة الزجاج باردة. الصراحة بادرة، يا حبيبتي السريّة. تبدو الشمس، عبر السّديم، كبرقوقة على شجرة الجنّة، أو ككدمة على انحناء بطنك. أيّهما؟ العشب يزحف مع الصقيع. نلتقي على هذا الشبّاك، العالم وأنا، بصفاقة، كسبّاحين على الزجاج، ندور باتّجاه خاطئ حول بعضنا البعض، ليبدو العالم بيننا. العالم- كم هي ضخمة، كم هي هائلة، خطيرة ومميتة، هذه الكلمة: العالم، منزلي والشّعر. يمتلك جميع الشعراء أحباءهم السريين. قضيب التبوّل هذا ليس لي، أو لأيّ من هذه الضبابيّة. هو ملكه الذي دفعه عبر ما هو أنثوي بي ليترجّل منه. هذه المنازل الخشبيّة في مربّعاتها، هذه الشوارع الكئيبة والأرصفة المتهدّمة، هذه الأشجار المنتصبة، اسمك الذي كتبته برقّة بأنفاسي على الهواء الجليدي، طيور شاحبة تعيش داخلي الآن بسببه. حدّقت بشدّة... لا يمكن لشجيرة متحمّسة لزهورها أن تتبرعم بالجمال الذي تفتّحت عليه آنذاك. كنت أودّ أن ألقي على هذه الصفحة نظرة. لأنّه هذا هو الشّعر: أن تجعل داخلك يتغيّر.

 

سياسة

الرياضة والسياسة والدين هي شغف ذوي الثقافة المتدنيّة. هي قروح الغرب الأوسط المفتوحة. بينما يبدو ظاهرها بشعاً، فهي مصدر استياء مستمرّ، وتستنزف الجسم. تهدر كميّات مرعبة من النقود والوقت والطاقة عليها. العقل الريفي محدود التفكير، وعاطفيّ، ومتهوّر بما يتعلّق بهذه الأمور. لن يكن الجّشع وراء هذه الأمور وحده مهما كان محدود النظر ومباشراً. فعلى سبيل المثال، عرفت رجالاً ممّن صوّتوا بأمانة ضد مصالحهم. كما أنّني لم ألاحظ يوماً أن عقيدتهم الدينيّة الفاسدة منعتهم من الحثّ على تقطيع، لنقل، روسيا، أو الصين، أو كوبا، أو كوريا إلى أشلاء. وينزعون إلى دعم بلادهم كما يدعمون فريقهم الرياضي المحلي: إذ يمتلكون رغبة عصبيّة بالفوز: صراخهم موطن قوّتهم، وإذا ما ساءت الأمور، فيميلون إلى إقالة المدرب. عموماً، بيرتش، إذاً، اسم جيّد. إذ يرمز إلى عصا المتعصّب، عصا مروّض الأطفال البريين.

النسيان- هل هذا هدفهم؟

آه، اعتقدت أنّني كنت جديداً. بداية جديدة: كس جديد، وطقس جديد، وبلاد جديدة- كنتِ هناك، وكنت سجيناً بلا تاريخ. تجرحني تلك اللغة أيضاً يا عزيزتي. لن تسمعيها أبداً.

 

بيانات أساسيّة أخيرة

نادي معرض ربّات المنازل المعاصرات. نادي معرض منزل المروج. نادي معرض روّاد الليل المنزلي. كل من: IOOF، وFFF، وVFW، وWCTU، وWSCS، و4-H، و40، و8، وPsi Iota Chi، وPTA. فرقتا كشّافة الأولاد والبنات، أقواس القزح، الماسونيين، نزل رفقة والهنود. إضافة إلى النادي الكبير النبيل السابق لنزل رفقة. والموظ وسيّدات الموظ. والأيائل، والنسور، والجاينتات[xvi]، والنجم الشرقي. نادي الأدب النسائي، ونادي الهوايات، ونادي الفنون، وجمعيّة الشمس المشرقة، وجمعيّة طابيثا[xvii]، والأخوات البيثنيّات[xviii]، وزمالة شبيبة الحج، ورابطة المحاربين الأميركيين القدامى، ورابطة المحاربين الأميركيين الاحتياطيين القدامى، ورابطة المحاربين الأميركيين الاحتياطيين المبتدئين القدامى، ونادي غارديز[xix]، ونادي البريدج للمرح، ونادي الـ ماذا يمكنك فعله؟ ونادي التجمّع، ونادي الشلّة، ونادي الجدير بالاهتمام، ونادي الـ لنساعد بلدتنا، ونادي اللااسم، ونادي لا تنساني، ونادي لعبة دوّامة الخيل.

 

تعليم

هل اختفى ربع دولار من محفظة باولا فروستي؟ تخيّل منظر ذلك الوجه: لا يمكن لأي قلم تلوين أن يرسمه، فمن الخطأ استعمال الشّمع الناعم، يمكن أن يؤدّي سلك رفيع في قصاصات مهملة الغرض. اتّهم كلا من باولا فروستي وكريستوفر روجر شيريل بايبس الشّاحبة والمبقّعة. لكن الآنسة جايكس، رأيتها. الآنسة جايكس مغتاظة للغاية إلى درجة أنّها كسرت قلمها الرصاص. ماذا ينقص أيضاً؟ أعيّن لك محقّقاً، جون الذي يفتّش مكتبها. علكة، وحلوى، وأوراق، وأقلام رصاص، وكرات زجاجيّة، وممحاة مستديرة- لمن؟ لصّة. لا أستطيع مراقبتها طيلة الوقت، أنا هنا للتعليم. مسكينة شيريل الشاحبة والمبثّرة، فقد قضي الأمر، ولا تستطيع إعادة النقود لأنّها أخدتها إلى المنزل وأنفقتها. سيندي، وجانيس، وجون، وبيت- أنتم الأربعة الذين تجلسون حولها- ستكونون محقّقين طيلة مدّة هذا الفصل لمراقبتها. لصّة. طيلة حياتي. تستدير الآنسة جايكس، ترخي قبضتها، وتستدير مرّة أخرى. سأتولّى أمرك، تبكي. التفكير. في لصّة. طيلة سنواتي. ثم تكتب اسم شيريل بايبس على اللوح وتكتب تحته رقم 25 مع علامة كبيرة للسنتات. تقول: شيريل، لن يمحى هذا حتّى تجلبي النقود من المنزل، من المنزل مباشرة إلى هنا، تقول الآنسة جايكس وهي تخبط على مكتبها.

أي ثلاثة أيّام.

 

شخص آخر

كنت أجمع أوراق الأشجار عندما عرّفني العم هالي بنفسه. قال إن اسمه يعود إلى المذنّب، وأن أمّه ولدته قبل أوانه من خوفها منه. فكّرت في هوبس[xx]، الذي عجّل الأسطول الإسباني العظيم بولادته، لذلك اعتقدت أن العم هاري أراد تكريم الفيلسوف، على الرّغم من أن العم هالي كاذب، فهو ليس في المئة والتاسعة والعشرين أو الثالثة والخمسين من عمره الذي ينبغي عليه أن يكون فيه. في ذلك الخريف سُفِعَت الأوراق على الأشجار، تجعّدت فصوص الأوراق، والآن اندفعت بصخب عبر الشّارع وتكسّرت على أسنان منكاشي.  كان العم هالي أيضاً (مثل السيّدة ديزموند والتاريخ بشكل عام) أصمّاً وعنيداً، وقادني عبر درجات قبوه إلى غرفة خصّصت لأكوام من الصحف التي وصلت إلى السقف، وصناديق من المنشورات والرسائل والبرامج، وأرفف من ألبومات الصّور، ودفاتر ألصقت قصاصات من الصحف على أوراقها، وحزم من الملصقات والخرائط الملفوفة، وأعلام ورايات وأكوام مائلة من مجلّات مغبرّة خصّصت أغلبها للسيّارات والأخلاق المسيحيّة. رأيت قفصاً للطيور، وصفيحة فراشات، وآلة نفير، وقبّعة قش متيبّسة، وكل أنواع الشراريب مربوطة بعلاقة معاطف. كان لا يزال يمتلك ويعرض ذراع التوجيه من أول سيارة له، ومنفضة من الكتّان، وقفّازات ونظّارات للقيادة، وصور على طول الجدار له، ولأصدقائه، ولسيّاراته المختلفة، وقذيفة من الحرب الأولى، وتسجيلاً لـ"رامونا[xxi]" مسمّراً عبر ثقبه إلى عمود، وعصي للمشي ومظلات غريبة، وأحذية من كل الأنواع (حمل حذاءه عندما كان طفلاً، والذي كسرت كعباه، بحزن تحت أنفي- لم يكن مبروزاً، لكنّه قال أنّه لربّما يفعل ذلك يوماً ما قبل أن يموت)، وصناديق لا تعد من الميداليات، والدّبابيس، والخرز، والحلي، والألعاب، والمفاتيح (التي نادراً ما رأيتها- والتي تدفّقت مثل الجواهر في راحة يديه)، وصور لوسط مدينة عندما كان مجرّد طريق بجوار محطّة القطار، وكرة أرضيّة بألوان زاهية مع انبعاج في بولندا، ومسدّسات عتيقة، وأبازيم أحزمة، وأزرار، وأطباق وفناجين وصحون فناجين تذكاريّة (لا أستطيع تذكّر كل ذلك- ولن أستطيع)، لكنّني أذكر الآن كيف أسرعت بالمغادرة بشكل مخزٍ، بشكل وقح، بغتةً، من قصّة جيّدة في فمي،  لكن رائحة الموت كانت في منخريّ، وكيف كنت مشغولاً فيما بعد بإحراق أوراقي بورع كما لو كنت أطهّر العالم من سنواته. لا زلت أتساءل إذا ما كانت هذه البلدة- وحياتها، التي هي حياتي الآن- حقّاً تسجيلاً مثل تسجيل "رومانا" والذي كنت معتاداً على إدارته على فونوغراف جدّتي "فيكترولا" من خشب الماهوغاني في الأيام الوحيدة الممطرة عندما كنت طفلاً.

 

الشخص الأوّل

يشبه بيلي الفحم الذي وجده: مهروق، وفي غير مكانه، ومهمل. السماء لا ترحم. منزله وجسده يموتان سويّاً. شبابيكه مغطّاة بألواح خشبيّة. ولم يتبق منه غير يداه. أعتقد أنّ لديه زَرَق. إذ يستطيع بالكاد أن يرى أي شيء، وينظّف فناءه من الحصى وهو على يديه وركبتيه. ربّما يكون جرّاحاً يطهّر جرحاً أو عاشقاً متوقّداً يتحسّس طريقه باللمس. أشاهده متوجّساً. مثل كشّافي الألغام في الحروب، ويداه ترعيان في دوائر أمامه. كان لحلمتيك لون عيناك. حصاة. كومة متشابكة من الورق. خيطان مجدّلة. ينحني إلى الأسفل بانتباه، يلتقط شيئاً فضيّاً، ويحمله بالقرب من أنفه. قصدير؟ سدّادة؟ عملة؟ أتساءل عمّ يمتلك بداخله. هل يعرف أكثر الآن لأنّه يتحسّس كل شيء بأصابعه ويضطر للشم كي يرى؟ سيكون أمراً رومانسياً قاسياً لو فكّرت بهذه الطريقة. ينحني على ذراعيك كالنسيم. كتبتِ لي: هناك أمر غريب يحدث عندما لا نفهم. أجبتكِ: أعتقد أنّني عندما أحببتك سرت إلى حتفي.

بيلي، يمكنني أن أقرأ لك من بيدوز[xxii]، ربّما هو  من تبحث عنه: تمسّك بالموت، وحرّر دمه من شرايينه، وقال أنّه ثمّة الكثير من الحمقى البائسين الملوّعين بالحب مثلي ممّن يستلقون بجانب آخر عظمة من ذواتهم السابقة، الممتلئة بالحيويّة والكلام، مثل السيّدة ديزموند، والعم هالي، ودولاب الملاهي، والعمّة بيت، والآنسة جايكس، ورامونا أو الميغافون، لكنّني أعارضه في النهاية، يا بيلي، ليس على أي أساس غير التبجّح، وأعلن أنّه على الرّغم من أن أعضائي الداخليّة ذوت منذ فترة طويلة، إلّا أن الدودة التي التهمت أعضائي لا تزال تنبض وتتوهّج مثل قصر من الكريستال.

نعم كنتَ أصغر. كنتُ العم هالي، الرجل المتحفيّ والمذنّب النادر. هذه أوّل قطعة من مؤخّرتي. لم تكن أردافي مسطّحة للغاية في تلك الأيّام، كانت مستديرة بشكل أكبر، كان هناك المزيد من اللحم. وهنا المني الذي أرقته، معلّب بشكل جيّد ومصنّف بوضوح. انظر إلى هذا الشريط بطول أمعائي حيث خزّنت قذافي، دودة الكلام الذي كتبته اللانهائيّة، مئة مليون لفظ أو أكثر: آه لقد كنت رجلاً بحق منذ البداية، حتّى عندما لم أكن واعياً في مهدي، من المنشعب إلى القحف، كنت نسيجاً انتصابيّاً، على الرغم أنّني غالباً ما ضاجعت بالعين وفقاً للطريقة التي استحسنها أفلاطون. بغض النظر يا هولسكلو[xxiii] العجوز، فأنت أعمى. نحن نسدل الظلام عندما نأوي إلى أسرّتنا، ونخمده مثل عضو أوديب[xxiv] المسيء بالفعل، وندرّب لمساتنا على الكذب. كل القطط رماديّة كما يقول تيك باشا، لذلك، فأنت تحت غطاء الزرق شوال رماديّ أيضاً لا يمكن تمييزه عن حصان.

عليّ أن أستجمع قواي وأتحكّم بحياتي تماماً كما يقولون، لكن أشعر أنّني فائض عن الحاجة، وبالارتباك والضياع بشكل كبير. لم أعد منزلي إلى شبابه، بل إلى شيخوخته. تربض لدى شجر الخطمى كأنّك تصيد. أميل إلى القول أنّك لست نصف المعوّق الذي أنا عليه، لأنّه لم يتبقّ منّي إلّا فم. ومع ذلك، فإنّني أقاوم الاندفاع. كذبة شعريّة أخرى. فجميع أعضائي موجودة، لكنّها موجودة حيث أفشل- لدى جذور تجربتي. ألم تكن يا ريلكه شاعر الروحانيّات؟ لكن ما قلته أن الشعر، مثل الحب، مداعبة ماديّة بأكمله. لا أستطيع تحمّل المزيد من سفسطائياتي حول الروح، والعقل، والأنفاس. الجسد يعادل الوجود، وإذا ما انخفض وزنك، فأنت التي تصبح أقل.

 

تفّاح منزلي

لم أكن أعرف شيئاً عن التفّاح. فلماذا يجب عليّ؟ جاءت بلادي في طفولتي، وحلمت بأنّني أجلس بين الزهور كالنحل. تخاذلت عن رشّ شجرة الإجاص أيضاً. في البداية تربّعت تحتها وأنا أتأمّل الأغصان المنخفضة المتينة التي كان علي أن أقلّمها بإعجاب، وبعد ذلك هلّلت للأزهار. بعد فترة قصيرة من تشكّل الثمار، سقط عدد قليل من التفّاح بحجم متوسّط، والتي طوحّت بي وأنا أتجوّل في الفناء. في بعض الأحيان تلتصق قطعة هرست بكعب حذاء على الحذاء وتترك آثاراً حتّى المنزل. جمعت قليلاً منها وألقيتها فوق الأسلاك. سيكون المقلاع حلّاً رائعاً. تلك الثمار الخضراء القاسية القميئة التي أكلتها الديدان. لم يمض وقت طويل حتّى أدركت أن الديدان أكلتها. حتى عندما احمرّ التفّاح وأشعل شجراته، كان يتم التهامه. فضّلت الطيور الإجاص الذي كان أصغر- أعتقد أنه يسمّى إجاص سكّري- الذي تغطّيه قشرة سميكة باللون الأخضر الرمادي الذي تتحوّل للون البنفسجي عند نضجها. وهكذا سقطت الثمار. في إحدى المرّات صنعت صلصلة تفّاح بعد تقطيع المئات منها إلى أرباع وتقشيرها، لكنّني لم أفعل شيئاً في الغالب، وتركتها، حتّى بدا فجأة وبين ليلة وعشاها، وفي قيظ أواخر أيلول الكريه الذي عادةً ما نشهده في إنديانا، أن مشكلتي وقعت على عاتقي.

جاءت طفولتي في البلاد. أذكر الآن الذباب على طاولة سفرتنا المثلجة. بعد أن نهشّها تستقرّ في مكانها، وتفرك نفسها بعناية، وتمشي متمهّلة لتقتات على الفتات حيث أقتلها بمجموعات بمنشّة. كان القبض عليها وهي توشك على الطيران يمثّل لعبة لا مثيل لها. كنت أضرب بقوّة بما أنّني لم أمانع أن أتلطّخ ببعض البقع لأنها ستغسل. كانت المنشّة عبارة عن قطعة منخل مربّعة مثبّتة بقطعة قماش حمراء. لا تدفع المنشّة الهواء لتحذيرها. ربّما ظنّت أنها تطير مندفعة نحو شبّاك مصيّف. لم تنظف البقعة الورديّة الباهتة حيث ماتوا كما أردت، وبعد سنوات من استعماله، تبقّع غطاء سفرتنا متورّداً وباهتاً.

أصبحت البلاد طفولتي. تجدّل الذباب على مصيدة الذباب في منزل جدّتي. يمكنني أن أشتم رائحة المخبز والبقالة والحظائر والألبان في تلك البلدة الصغيرة في داكوتا والتي عرفتها في صغري، عرفتها كما حلمت أنّني سأعرف جسدك، كما أنّني لم أعرف شيئاً، لا قبله ولا منذ ذلك الحين، عرفته كما عرف الذباب، بإدراك صريح وفاسق، المنزل المحترق، والمنزل الرطب الذي جذب أسراباً من الحشرات كدخان عثانه الأزرق، أو عصابة من الأطفال، بشفاهها الرطبة، تدمّر كما تحترق. لطالما أثار الذباب إعجابي، إذ يتشبّثون بالحياة بإصرار. والآن يغطّون الأرض تحت أشجاري. كان بعضها ذباباً عاديّاً، كان هناك ذباب كبير بالأزرق والأخضر، كان هناك أسراب من ذباب الفاكهة أيضاً، ودعاسيق مبقّعة بالأحمر، وكان هناك عدد قليل من الدبابير، وأنواع مختلفة من النحل والفراش- بزخارف مربّعة، صفراء، ملكيّة، بفواصل وعلامات استفهام- ويعاسيب رقيقة... لكن بشكل أساسي يحوم ذباب منازل وذبابة الفرس وذباب العنقود في جماعات حول الفاكهة المتعفّنة. أحب الذباب الإجاص. وتغذّوا عليها من الداخل. فإذا التقطت إجاصة يطير الذباب، وتبقى الثمرة جلداً وقصبة. كانوا يتواجدون حيثما تواجدت الفواكه: سواءً عندما لا تزال على الشجرة- فالتفّاح يعد خليّة بالنسبة إليها- أو أينما تناثرت الفاكهة على الأرض وهي تهرس تحت أقدامك... لم يكن هناك مفر. حام الذباب وهو يتغذّى على العصير الحلو. لم يستطع أحد الاقتراب من الأشجار: فلم أستطع التسلّق، لذلك قرّرت أن أعمل مثل هرقل. كانت هناك سلال للفواكه في الحظيرة. وبدأت بجمع البقايا وأنا أركع تحت الأغصان. وفي أعماق رائحة الفواكه القويّة والغنيّة، بدأت أهمهم لنفسي. هَلَطَتْ الفاكهة بلمسة. وانكشف التفّاح الأحمر المتلألئ، بعد رفعه، عن عائلات من الخنافس، والذباب، والبق التي تلتهم جوانبها السفليّة المتعفّنة. كان هناك فيوض من الذباب، كان هناك بحيرات وجنادل وأنهار وبحور ومحيطات من الذباب. كانت الهمهة أثقل وأعلى من همهة النحل عندما جاؤوا إلى وقت تفتّح الأزهار في الربيع، لكن النّحلات اللواتي كنّ هناك، إلى جانب الذباب، تجاهلنني- وتجاهلن الجميع. ومع استمراري في العمل، وغطّت العصارة يداي وذراعاي، شكّلت الحشرات كمّاً أسود متحرّكاً، مثل الصوف المعقود. لا يمكن لأي مداعبة أن تكون لامباليّة بشكل تام مثل هذه. لكنّني نهضت خائفاً وصدمت رأسي بالأغصان، بينما يصطدم التفّاح بي في سقوطه وهو مشتعل بالحشرات. كنت سأهشّ الذباب بحدّة، لكنّه سيتشبّث بالحلاوة. كان بإمكاني أن ألقي بمجموعة كاملة في السلة من على بعد عدّة أقدام. وعندما تلقى الإجاصة أو التفّاحة، تنفجر الحشرات وتصعد مثل كائن واحد للحظة، بدون مجال للرؤية بلا شك، مع مراعاة طريق بعضها البعض، وهم يزيّنون تناغمهم. مع ذلك، كان على أن أعترف، على الرغم من استيائي، أن ذراعي لم تكن بمثل هذه الطاقة من قبل وهي تقبّل بلطف تكراراً. كانت مئات الأقدام تلك خفيفة. تخيّلت، لدى تنظيف الثمار منها، أن الخرطوم مضخّة. ما الذي فاتني؟ الطفولة كذبة الشّعر.

 

الكنيسة

ليلة الجمعة. تجلس فتيات ترتدين تنّورات داكنة وبلوزات بيضاء في صفوف وتصرخن في حفلة موسيقيّة. تحملن أقماع معبأة، بشكل فضفاض، بأوراق برتقاليّة وسوداء وتهزّها بعنف، بينما تنقل مكبّرات صوت صغيرة وتضخّم صراخهن كما تدربن. وتثب تنانير قادتهن، من الفتيات اللواتي بلغن بالكاد، وتهتز وتدور فوق سراويلهن. يثب الصبية وهم يمدّون أذرعتهم ويتسابقون عبر مستنقعات من الإضاءة الكهرمانيّة الذي يتلألأ على أجسادهم. وفي فترة الهدوء المؤقّت، على الرغم أنّه لا يحصل إلا نادراً، يمكنك سماع صرير أحذية رياضيّة على الأرض. ثم يبدأ الصراخ مرّة أخرى، ثم يستمر: آباء، وأمّهات، وجيران يجتمعون معاً ليشكّلون هتافاً خافقاً واحداً- نداء إلى المجتمع بأكمله- لأنّه في هذه الصالة الرياضيّة، يصبح كل جسم الأجسام التي بجانبه، أجساد ضغطت معاً، فخذاً بفخذ، ويمر الارتعاش عبرها جميعاً، سائراً إلى ذات نقطة الإطلاق. فقط الكرة تتحرّك بسكينة خلال هذا الضجيج المبهر. نادراً ما تتكلّم الكرة طاعة للقانون، لكنّها ترتدّ بصمت وتعيش حياتها بهدوء.

 

تجارة

هذا أسبوع عيد الميلاد، لذلك تبقي المحلات أبوابها مفتوحة في المساء لاستيعاب التدفّق الذي يأملون به. يمكنك رؤية الثلج وهو يتساقط في مخاريط أضواء الشوارع. تمتلئ الشوارع بالثلج- بدون عائق. تتلاشى سلاسل من الإضاءة الحمراء والخضراء على الطريق السريع الرئيسي، ويرتدي برج المياه نجماً. تم تزيين شبابيك المحلات بلا ذوق. لتومئ بالدخول بلا خجل. لكنّني وحيد، متكئاً على عمود- لا... ليس هناك شخص في الأفق. فالجميع في منازلهم، وربّما يحملون آلاتهم الموسيقيّة ويدوزنونها في مساءاتهم، ومثل رامونا، يعزفون ويكرّرون أنفسهم. ثمّة مكبّر يجثم على البرج، وعبر فروع الثلج المتساقط، وفوق الشوارع الخالية، يسدل السلالات الملتويّة والمعدنيّة للحن يمكن بالكاد تمييزه- نعم، أعتقد أنّه لحن من الألحان المبتهجة، "البهجة للعالم". لا يوجد أيّ أحد للاستماع إلى الموسيقى سواي، وعلى الرّغم من أنّني أستمع، لكنّني لم أعد متأكدّاً. ربّما يشغّل المسجّل شيئاً آخر.



[i] فولغينسيو باتيستا: عسكري وسياسي كوبي انتخب رئيساً بين الأعوام 1940- 1944، ثم قاد انقلاباً بدعم من أميركا ليستولي على السلطة في العام 1952 حتّى أطاحت به الثورة الكوبيّة العام 1959.

[ii] أخويّة بنادق بيرشينغ: منظّمة أخويّة عسكريّة. أسست العام 1894في نيبراسكا.

[iii] تبرّع رجل الأعمال السكوتلندي- الأميركي أندرو كارنيجي بما يقارب 2509 مكتبة حول العالم في الفترة 1883- 1929، منها 1689 مكتبة في أميركا. انتقد كارنيجي لتمويله للمباني فقط من دون تخصيص تمويل للمكتبات ذاتها، أو للصيانة. اتّهم أنّه كان يسعى، من خلال هذه التبرّعات، للشهرة، بدلاً من تحسين ظروف عمّال مصانع الفولاذ التي كان يحتكرها. قام في آخر سنواته بتأسيس العديد من المنظّمات والمتاحف والجامعات.

[iv] جايمس ويتكومب رايلي: شاعر وكاتب أميركي اشتهر بقصائده التي كتبها للأطفال وبلهجات وشخصيّات محليّة بطابع وعظي ينتقد التمدّن. اعتبر جزءاً من عصر أدب إنديانا الذهبي بين 1880- 1920.

[v] أوغست ستريندبيرغ: كاتب سويدي اعتبر من المجدّدين في الكتابة للمسرح. اتّسمت أكثر مسرحياته رياديّة بالتقشّف الرومانسي ونقل الواقع كما هو.

[vi] هارت كراين: شاعر أميركي عدّه النقاد واحداً من أكثر الشعراء تأثيراً في جيله. ولد ونشأ في كليفلاند بأوهايو، وانتحر العام 1932 بعمر 32 عاماً في خليج المكسيك. ربطته علاقة مرضيّة بمسقط رأسه ما بين الحنين إليها ومقتها.

[vii] يشير منير صلاحي الأصبحي إلى أن ذكر ميزوري وآيداهو مرتبط بتي. إس. إليوت الذي ولد في الأولى و إزرا باوند المولود في الثانية. ولعل الإشارة هنا إلى تأثير الشاعرين على كراين وتأثيره عليهما، إضافة إلى ارتباطهم جميعاً مع جيلهم بالصراعات التي خاضوها مع مواطنهم وتوجهّاتهم ونهاياتهم.

[viii] مدن في ولاية إنديانا.

[ix] باللاتينيّة. يرجع استخدام العبارة إلى العصور الوسطى ويتم الترميز إليها بجمجمة للتذكير بمصير الناس. استخدمت في البداية كفن جنائزي، ثم انتشرت إلى العمارة والأدب والموسيقى.

[x] نهر يمر عبر إنديانا ويصب في نهر أوهايو. يجذب النهر مياه الأمطار مشكّلة تجمّعات مائيّة في حوضه تجفّف ما حولها.

[xi] مقاطعة في ولاية مينيسوتا يصل معدل أدنى درجة حرارة في أبرد مناطقها إلى 21-.

[xii] مدن في إنديانا أو قريبة منها.

[xiii] مقاطعة في ولاية إيلينويز تعرّضت فيها أشجار الدردار على مر السنين لفطريات قاتلة.

[xiv] ويليام ووردسوورث: شاعر بريطاني كتب العبارة اللاحقة في مقدمة ديوانه "قصائد غنائيّة" (1800) متحسّراً على رغبة سكّان المدن المتزايدة لقراءة أعمال أدبيّة حسيّة.

[xv] مقطع من قصيدة "مساء شتوي" للشاعر البريطاني ويليام كوبر الذي تمحورت قصائده حول الريف ويوميّاته.

[xvi] إشارة إلى فرقة The Jaynetts التي ضمّت موسيقيّات ناشئات من حي برونكس اجتمعن صدفةً في استوديو، واشتهرت بأغنية Sally Go ‘Round the Roses التي أثارت، لدى إصدارها العام 1963، هوساً هيّأه غموض الكلمات وتعدّد نظريّات معناها واللحن الذي بنى على نمط ألحان فرقة البيتلز. لم تستطع الفرقة تحقيق نفس الانتشار في أغانٍ أخرى، وسرعان ما انحلّت كما بدأت.

[xvii] جمعيّات كنسيّة توفّر الملابس للفقراء تيمّناً بطابيثا من يافا التي كرّست حياتها لكساء الفقراء، والتي اشتهرت بإعادة إحياء الرسول بطرس لها بعد موتها.

[xviii] تجمّع نسائي تابع لفرسان بيثياس، وهي أخويّة أسست العام 1864 في واشنطن يقسم المنضمّون إليها على أنّهم ليسوا مقامرين، ولا يتاجرون بالكحول والمخدّرات، ولا ينتمون إلى حركات متمرّدة فاشيّة أو شيوعيّة أو غيرها. استمد الاسم من مسرحيّة دامون وبيثياس للشاعر الإيرلدني جون بانيم والتي تسرد أسطورة صداقة نبيلين يونانيين كانا يؤمنان بالتعاليم الفيثاغوريّة. يعدّ اسم فيثاغورس نفسه كناية لبيثيا، وهي كاهنة من دلفي كانت تنقل تعاليم الإله أبولو.

[xix] ناد اجتماعي نشط في الخمسينيّات والستينيّات.

[xx] توماس هوبس (1588- 1679): فيلسوف بريطاني أسّست أطروحاته في الفلسفة السياسيّة مفهوم العقد الاجتماعي. ولدته أمه قبل أوانه خوفاً عندما سمعت بغزو الأسطول الإسباني لبريطانيا.

[xxi] أغنية رافقت فيلماً صامتاً أنتج العام 1928 بنفس الاسم.

[xxii] توماس لوفيل بيدوز (1803- 1849): شاعر وكاتب مسرحي وطبيب بريطاني. كان مهووساً بفكرة الموت في أعماله وتجاربه الطبيّة. في آخر حياته، قام بقطع شريان رجله اليسرى لتبتر لاحقاً، قبل أن ينتحر بالسم.

[xxiii] لقب مشتق من الكنية الألمانيّة: Holtzclaw، وتعني حرفيّاً: سارق الخشب. ويمكن أن يتم إطلاقها على من يمتهن جمع الخشب.

[xxiv] في الدراما التراجيديّة التي كتبها سوفوكليس، يفقئ أوديب عيناه عقاباً لنفسه على جرائمه.